فصل: باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لِأَمْرِ اللَّهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ وَمَا يُنْهَى عَنْ الْكَذِبِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏)‏ وما ينهى عن الكذب‏)‏ قال الراغب أصل الصدق والكذب في القول ماضيا كان أو مستقبلا وعدا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في الخبر، وقد يكونان في غيره كالاستفهام والطلب، والصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه، فإن انخرم شرط لم يكن صدقا، بل إما أن يكون كذبا أو مترددا بينهما على اعتبارين، كقول المنافق‏:‏ محمد رسول الله فإنه يصح أن يقال صدق لكون المخبر عنه كذلك، يصح أن يقال كذب لمخالفة قوله لضميره‏.‏

والصديق من كثر منه الصدق، وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق في الاعتقاد ويحصل نحو صدق ظني، وفي الفعل نحو صدق في القتال، ومنه ‏(‏قد صدقت الرؤيا‏)‏ ا ه ملخصا‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ اختلف في قوله ‏(‏مع الصادقين‏)‏ فقيل معناه مثلهم وقيل منهم‏.‏

قلت‏:‏ وأظن المصنف لمح بذكر الآية إلى قصة كعب بن مالك وما أداه صدقه في الحديث إلى الخير الذي ذكره في الآية بعد أن وقع له ما وقع من ترك المسلمين كلامه تلك المدة حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت ثم من الله عليه بقبول توبته‏.‏

وقال في قصته‏:‏ ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي أن لا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا‏.‏

وقال الغزالي‏:‏ الكذب من قبائح الذنوب، وليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر، ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقا إلى المصلحة‏.‏

وتعقب بأنه يلزم أن يكون الكذب -إذا لم ينشأ عنه ضرر - مباحا، وليس كذلك، ويمكن الجواب بأنه يمنع من ذلك حسما للمادة فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة، فقد أخرج البيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ بسند صحيح عن أبي بكر الصديق قال ‏"‏ الكذب بجانب الإيمان ‏"‏ وأخرجه عنه مرفوعا وقال‏:‏ الصحيح موقوف‏.‏

وأخرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص رفعه قال ‏"‏ يطبع المؤمن على كل شيء، إلا الخيانة والكذب ‏"‏ وسنده قوي، وذكر الدار قطني في ‏"‏ العلل ‏"‏ أن الأشبه أنه موقوف، وشاهد المرفوع من مرسل صفوان بن سليم في الموطأ قال ابن التين‏:‏ ظاهره يعارض حديث ابن مسعود، والجمع بينهما حمل حديث صفوان على المؤمن الكامل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقاً وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏جرير‏)‏ هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وأما جرير المذكور في ثالث أحاديث الباب فهو ابن حازم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الصدق يهدي‏)‏ بفتح أوله من الهداية وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، هكذا وقع أول الحديث من رواية منصور عن أبي وائل، ووقع في أوله من رواية الأعمش عن أبي وائل عند مسلم وأبي داود والترمذي ‏"‏ عليكم بالصدق فإن الصدق ‏"‏ وفيه ‏"‏ وإياكم والكذب فإن الكذب الخ‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إلى البر‏)‏ بكسر الموحدة أصله التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلها، ويطلق على العمل الخالص الدائم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن البر يهدي إلى الجنة‏)‏ قال ابن بطال‏:‏ مصداقه في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏(‏إن الأبرار لفي نعيم‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن الرجل ليصدق‏)‏ زاد في رواية الأعمش ‏"‏ ويتحرى الصدق ‏"‏ وكذا زادها في الشق الثاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى يكون صديقا‏)‏ في رواية الأعمش ‏"‏ حتى يكتب عند الله صديقا ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ المراد أنه يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة في الصدق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن الكذب يهدي إلى الفجور‏)‏ قال الراغب‏:‏ أصل الفجر الشق، فالفجور شق ستر الديانة، ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن الرجل ليكذب حتى يكتب‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ يكون ‏"‏ وهو وزن الأول، والمراد بالكتابة الحكم عليه بذلك وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض، وقد ذكره مالك بلاغا عن ابن مسعود وزاد فيه زيادة مفيدة ولفظه ‏"‏ لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين ‏"‏ قال النووي قال العلماء‏:‏ في هذا الحديث حث على تحري الصدق وهو قصده والاعتناء به وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فيعرف به‏.‏

قلت‏:‏ والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي الأحوص عن منصور بن المعتمر عند مسلم ولفظه ‏"‏ وإن العبد ليتحرى الصدق ‏"‏ وكذا قال في الكذب، وعنده أيضا في رواية الأعمش عن شقيق وهو أبو وائل وأوله عنده ‏"‏ عليكم بالصدق ‏"‏ وفيه ‏"‏ وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق ‏"‏ وقال فيه ‏"‏ وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ‏"‏ فذكره، وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن من توقى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق صار له الصدق سجية حتى يستحق الوصف به، وكذلك عكسه، وليس المراد أن الحمد والذم فيهما يختص بمن يقصد إليهما فقط، إن كان الصادق في الأصل ممدوحا والكاذب مذموما‏.‏

ثم قال النووي‏:‏ وأعلم أن الموجود في نسخ البخاري ومسلم في بلادنا وغيرها أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه قاله القاضي عياض، وكذا نقله الحميدي، ونقل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن مثنى وابن بشار زيادة وهي ‏"‏ إن شر الروايا روايا الكذب، لأن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه ‏"‏ فذكر أبو مسعود أن مسلما روى هذه الزيادة في كتابه، وذكرها أيضا أبو بكر البرقاني في هذا الحديث، قال الحميدي‏:‏ وليست عندنا في كتاب مسلم، والروايا جمع رواية بالتشديد وهو ما يتروى فيه الإنسان قبل قوله أو فعله، وقيل هو جمع رواية أي للكذب والهاء للمبالغة‏.‏

قلت‏:‏ لم أر شيئا من هذا في ‏"‏ الأطراف لأبي مسعود ‏"‏ ولا في ‏"‏ الجمع بين الصحيحين للحميدي ‏"‏ فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ نَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ آيه المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدث كذب ‏"‏ الحديث وتقدم شرحه في كتاب الإيمان، وطرفا من حديث سمرة في المنام الطويل المقدم ذكره وشرحه في كتاب الجنائز، وفيه ‏"‏ الذي رأيته يشق شدقه الكذاب ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ إذا كرر الرجل الكذب حتى استحق اسم المبالغة بالوصف بالكذب لم يكن من صفات كملة المؤمنين بل من صفات المنافقين، يعني فلهذا عقب البخاري حديث ابن مسعود بحديث أبي هريرة‏.‏

قلت‏:‏ وحديث أبي هريرة المذكور هنا في صفة المنافق يشمل الكذب في القول والفعل، والقصد الأول في حديثه والثاني في أمارته والثالث في وعده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي قَالَا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

أخبر في حديث سمرة بعقوبة الكاذب بأنه يشق شدقه وذلك في موضع المعصية وهو فمه الذي كذب به‏.‏

قلت‏:‏ ومناسبته للحديث الأول أن عقوبة الكاذب أطلقت في الحديث الأول بالنار فكان في حديث سمرة بيانها‏.‏

قوله في حديث سمرة ‏(‏قالا الذي رأيته يشق شدقه فكذاب‏)‏ هكذا وقع بالفاء واستشكل بأن الموصول الذي يدخل خبره الفاء يشترط أن يكون مبهما عاما، وأجاب ابن مالك بأنه نزل المعين المبهم منزلة العام إشارة إلى اشتراك من يتصف في العقاب المذكور، والله أعلم‏.‏

*3*باب فِي الْهَدْيِ الصَّالِحِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الهدي الصالح‏)‏ بفتح الهاء وسكون الدال هو الطريقة الصالحة، وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من وجهين من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رفعه ‏"‏ الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة ‏"‏ وفي الطريق الأخرى ‏"‏ جزء من سبعين جزءا من النبوة ‏"‏ وأخرجه أبو داود وأحمد باللفظ الأول وسنده حسن، وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس بلفظ ‏"‏ خمسة وأربعين ‏"‏ وسنده ضعيف، وستأتي الإشارة إلى طريق الجمع بين هذه الروايات في التعبير في شرح حديث الرؤيات الصالحة، قال التوربشتي‏:‏ الاقتصاد على ضربين‏:‏ أحدهما ما كان متوسطا بين محمود ومذموم كالتوسط بين الجور والعدل، وهذا المراد بقوله تعالى ‏(‏ومنهم مقتصد‏)‏ ، وهذا محمود ومذموم بالنسبة، والثاني متوسط بين طرفي الإفراط والتفريط كالجود فإنه متوسط بين الإسراف والبخل، وكالشجاعة فإنها متوسطة بين التهور والجبن، وهذا هو المراد في الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي أُسَامَةَ أَحَدَّثَكُمْ الْأَعْمَشُ سَمِعْتُ شَقِيقاً قَالَ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ إِنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلّاً وَسَمْتاً وَهَدْياً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَابْنُ أُمِّ عَبْدٍ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ لَا نَدْرِي مَا يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ إِذَا خَلَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني إسحاق بن إبراهيم‏)‏ هو ابن راهويه ونص البخاري لفظه، ولكنه حذف من آخره قول أبي أسامة وهو ثابت في مسند إسحاق فقال في آخر الحديث ‏"‏ فأقر به أبو أسامة وقال نعم ‏"‏ وشقيق هو أبو وائل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏دلا‏)‏ يفتح المهملة وتشديد اللام هو حسن الحركة في المشي والحديث وغيرهما، ويطلق أيضا على الطريق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسمتا‏)‏ بفتح المهملة وسكون الميم هو حسن المنظر في أمر الدين، ويطلق أيضا على القصد في الأمر وعلى الطريق والجهة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهديا‏)‏ قال أبو عبيد‏:‏ الهدي والدل متقاربان، يقال في السكينة والوقار وفي الهيبة والمنظر والشمائل قال‏:‏ والسمت يكون في حسن الهيئة والمنظر من جهة الخير والدين لا من جهة الجمال والزينة، ويطلق على الطريق، وكلاهما جيد بأن يكون له هيئة أهل الخير على طريقة أهل الإسلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لابن أم عبد‏)‏ بفتح اللام وهي تأكيد بعد التأكيد بأن المكسورة التي في أول الحديث وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود، ووقع في رواية محمد بن عبيد عن الأعمش عند الإسماعيلي بلفظ ‏"‏ عبد الله بن مسعود ‏"‏ وفي الحديث فضيلة لابن مسعود جليلة لشهادة حذيفة له بأنه أشد الناس شبها برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخصال، وفيه توقى حذيفة حيث قال ‏"‏ من حين يخرج إلى أن يرجع ‏"‏ فإنه اقتصر في الشهادة له بذلك على ما يمكنه مشاهدته، وإنما قال ‏"‏ لا أدري ما يصنع في أهله ‏"‏ لأنه جوز أن يكون إذا خلا يكون في انبساطه لأهله يزيد أو ينقص عن هيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله، ولم يرد 0 بذلك إثبات نقص في حق عبد الله رضي الله عنه‏.‏

وقد أخرج أبو عبيد في ‏"‏ غريب الحديث ‏"‏ أن أصحاب عبد الله بن مسعود كانوا ينظرون إلى سمته وهديه ودله فيتشبهون به، فكأن الحامل لهم على ذلك حديث حذيفة‏.‏

وأخرج البخاري في ‏"‏ الأدب المفرد ‏"‏ من طريق زيد بن وهب ‏"‏ سمعت ابن مسعود قال‏:‏ اعلموا أن حسن الهدي في أخر الزمان خير من بعض العمل ‏"‏ وسنده صحيح، ومثله لا يقال من قبل الرأي، فكأن ابن مسعود لأجل هذا كان يحرص على حسن الهدي، وقد استشكل الداودي الشارح بقول حذيفة في ابن مسعود قول مالك ‏"‏ كان عمر أشبه الناس بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشبه الناس بعمر ابنه عبد الله، وبعبد الله ابنه سالم ‏"‏ قال الداودي‏:‏ وقول حذيفة يقدم على قول مالك، ويمكن الجمع باختلاف متعلق الشبه بحمل شبه ابن مسعود بالسمت وما ذكر معه، وقول مالك بالقوة في الدين ونحوها، ويحتمل أن تكون مقالة حذيفة وقعت بعد موت عمر، يؤيد قول مالك ما أخرج البخاري في ‏"‏ كتاب رفع اليدين ‏"‏ عن جابر قال ‏"‏ لم يكن أحد منهم ألزم لطريق النبي صلى الله عليه وسلم من عمر ‏"‏ وفي السنن ومستدرك‏.‏

الحاكم عن عائشة قالت ‏"‏ ما رأيت أحدا كان أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة عليها السلام ‏"‏ قلت‏:‏ ويجمع بالحمل في هذا على النساء‏.‏

وأخرج أحمد عن عمر ‏"‏ من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ ويجمع بالحمل على من بعد الصحابة، وعن عبد الرحمن بن حبير بن نفير ‏"‏ حج عمرو بن الأسود فرآه ابن عمر يصلي فقال‏:‏ ما رأيت أشبه صلاة ولا هديا ولا خشوعا ولا لبسة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل ‏"‏ انتهى‏.‏

وعمرو المذكور‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُخَارِقٍ سَمِعْتُ طَارِقاً قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن مخارق‏)‏ هو ابن عبد الله ويقال ابن خليفة الأحمسي وطارق هو ابن شهاب الأحمسي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال قال عبد الله‏)‏ في رواية الإسماعيلي ‏"‏ كان عبد الله يقول ‏"‏ وعبد الله هو ابن مسعود؛ وجزم ابن بطال بأن عبد الله هذا هو ابن عمر فوهم في ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد‏)‏ هو بفتح الهاء كما في الترجمة وروي بضمها ضد الضلال، زاد أبو خليفة عن أبي الوليد شيخ البخاري فيه في آخره‏:‏ وشر الأمور محدثاتها ‏(‏وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين‏)‏ أخرجه أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ وسيأتي في كتاب الاعتصام من وجه آخر عن ابن مسعود وفيه هذه الزيادة بلفظها وسأذكر شرحها هناك إن شاء الله تعالى‏.‏

هكذا رأيت هذا الحديث في جميع الطرق موقوفا، وقد ورد بعضه مرفوعا من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود أخرجه أصحاب السنن، وجاء أكثره مرفوعا من حديث جابر أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد وابن ماجه وغيرهم من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر بألفاظ مختلفة، منها لأحمد عن يحيى القطان عن جعفر به ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته بعد التشهد‏:‏ إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ‏"‏ قال يحيي ولا أعلمه إلا قال ‏"‏ وشر الأمور محدثاتها ‏"‏ الحديث، وفي لفظ لمسلم من طريق عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد في أثناء حديث قال فيه ‏"‏ ويقول‏:‏ أما بعد إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ‏"‏ الحديث‏.‏

*3*باب الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب الصبر في الأذى‏)‏ أي حبس النفس عن المجازاة على الأذى قولا أو فعلا، وقد يطلق على الحلم ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏)‏ قال بعض أهل العلم‏:‏ الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله الأنفس على التألم بما يفعل بها ويقال فيها؛ ولهذا شق على النبي صلى الله عليه وسلم نسبتهم له إلى الجور في القسمة، لكنه حلم عن القائل فصبر لما علم من جزيل ثواب الصابرين وأن الله تعالى يأجره بغير حساب، والصابر أعظم أجرا من المنفق لأن حسنته مضاعفة إلى سبعمائة، والحسنة في الأصل بعشر أمثالها إلا من شاء أن يزيده، وقد تقدم في أوائل الإيمان حديث ابن مسعود ‏"‏ الصبر نصف الإيمان ‏"‏ وقد ورد في الصبر على الأذى حديث ليس على شرط البخاري، وهو ما أخرجه ابن ماجه يسند حسن عن ابن عمر رفعه ‏"‏ المؤمن الذي يخالط الناس يصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ‏"‏ وأخرجه الترمذي من حديث صحابي لم يسم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَداً وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ حديث أبي موسى ‏(‏ليس أحد أو ليس شيء‏)‏ هو شك من الراوي، وقد أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد بسند البخاري وقال فيه ‏"‏ أحد ‏"‏ بغير شك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أصبر على أذى‏)‏ هو بمعنى الحلم، أو أطلق الصبر لأنه بمعنى الحبس والمراد به حبس العقوبة على مستحقها عاجلا وهذا هو الحلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏على أذى سمعه من الله‏)‏ قد بينه في بقية الحديث، وهو أنهم يشركون به ويرزقهم، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب التوحيد إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ شَقِيقاً يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمَةً كَبَعْضِ مَا كَانَ يَقْسِمُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ قُلْتُ أَمَّا أَنَا لَأَقُولَنَّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ فَسَارَرْتُهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَغَضِبَ حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عبد الله‏)‏ هو ابن مسعود ووقع في رواية سفيان عن الأعمش الماضية في ‏"‏ باب من أخبر صاحبه بما يعلم ‏"‏ بلفظ ‏"‏ عن ابن مسعود‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما‏)‏ في رواية شعبة عن الأعمش أنها قسمه غنائم حنين‏.‏

وفي رواية منصور عن ابن أبي وائل ‏"‏ لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل وأعطى ناسا من أشراف العرب ‏"‏ وقد تقدم إيضاح ذلك في غزوة حنين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال رجل من الأنصار‏)‏ تقدمت تسميته في غزوة حنين والرد على من زعم أنه حرقوص بن زهير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله‏)‏ قد تقدم في غزوة حنين من وجه آخر بلفظ ‏"‏ ما أراد ‏"‏ على البناء للفاعل وفي رواية منصور ‏"‏ ما عدل فيها ‏"‏ وهو بضم أوله على البناء للمجهول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت أما لأقولن‏)‏ قال ابن التين‏:‏ هي بتخفيف الميم ووقع في رواية ‏"‏ أما ‏"‏ بتشديدها وليس ببين‏.‏

قلت‏:‏ وقع للكشميهني ‏"‏ أم ‏"‏ بغير ألف وهو يؤيد التخفيف، ويوجه التشديد على أن في الكلام حذفا تقديره أما إذ قلت ذلك لأقولن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فشق ذلك عليه وتغير وجهه‏)‏ قد تقدم قبل بأكثر من عشرة أبواب بلفظ ‏"‏ فتمعر وجهه ‏"‏ وهو بالعين المهملة ويجوز بالمعجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى وددت أني لم أكن‏)‏ في رواية أن بفتح وتخفيف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم قال قد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر‏)‏ في رواية شعبة عن الأعمش ‏"‏ يرحم الله موسى قد أوذي ‏"‏ فذكره وزاد في رواية منصور ‏"‏ فقال فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحم الله موسى ‏"‏ الحديث‏.‏

وفي هذا الحديث جواز إخبار الإمام وأهل الفضل بما يقال فيهم مما لا يليق بهم ليحذروا القائل وفيه بيان ما يباح من الغيبة والنميمة لأن صورتهما موجودة في صنيع ابن مسعود هذا ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قصد ابن مسعود كان نصح النبي صلى الله عليه وسلم وإعلامه بمن يطعن فيه ممن يظهر الإسلام ويبطن النفاق ليحذر منه، وهذا جائز كما يجوز التجسس على الكفار ليؤمن من كيدهم، وقد ارتكب الرجل المذكور بما قال إثما عظيما فلم يكن له حرمة‏.‏

وفيه أن أهل الفضل قد يغضبهم ما يقال فيهم مما ليس فيهم، ومع ذلك فيتلقون ذلك بالصبر والحلم كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم اقتداء بموسى عليه السلام، وأشار بقوله ‏"‏ قد أوذي موسى ‏"‏ إلى قوله تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى‏)‏ قد حكي في صفة أذاهم له ثلاث قصص‏:‏ إحداها قولهم هو آدر، وقد تقدم ضبط ذلك وشرحه في قصة موسى من أحاديث الأنبياء‏.‏

ثانيها في قصة موت هارون، وقد أوضحته أيضا في قصة موسى ثالثها في قصته مع قارون حيث أمر البغي أن تزعم أن موسى راودها حتى كان ذلك سبب هلاك‏:‏ قارون، وقد تقدم ذلك في قصة قارون في آخر أخبار موسى من أحاديث الأنبياء‏.‏

*3*باب مَنْ لَمْ يُوَاجِهْ النَّاسَ بِالْعِتَابِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من لم يواجه الناس بالعتاب‏)‏ أي حياء منهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَتْ عَائِشَةُ صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئاً فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏مسلم‏)‏ هو ابن صبيح أبو الضحى، ووهم من زعم أنه ابن عمران البطين، وقد أخرجه مسلم من طريق جرير عن الأعمش فقال ‏"‏ عن أبي الضحى ‏"‏ ومن طريق حفص بن غياث التي أخرجها البخاري من طريقه فقال نحو جرير، ومن طريق عيسى بن يونس عن الأعمش كذلك، ومن طريق معاوية عن الأعمش عن مسلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فترخص فيه‏)‏ في رواية مسلم من طريق أبي معاوية عن الأعمش ‏"‏ رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أمر‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتنزه عنه قوم‏)‏ في رواية مسلم من طريق جرير عن الأعمش ‏"‏ فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فخطب‏)‏ في رواية أبي معاوية ‏"‏ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بأن الغضب في وجهه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما بال أقوام‏)‏ في رواية جرير ‏"‏ ما بال رجال ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ هذا لا ينافي الترجمة، لأن المراد بها المواجهة مع التعيين كأن يقول ما بالك يا فلان تفعل كذا، وما بال فلان يفعل كذا‏.‏

فأما مع الإبهام فلم تحصل المواجهة وإن كانت صورتها موجودة وهي مخاطبة من فعل ذلك، لكنه لما كان من جملة المخاطبين ولم يميز عنهم صار كأنه لم يخاطب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يتنزهون عن الشيء أصنعه‏)‏ في رواية جرير ‏"‏ بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا عنه ‏"‏ وفي رواية أبي معاوية ‏"‏ يرغبون عما رخص لي فيه‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية‏)‏ جمع بين القوة العلمية والقوة العملية، أي أنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند الله، وليس كذلك إذ هو أعلمهم بالقربة وأولاهم بالعمل بها‏.‏

وقد تقدم معنى هذا الحديث في كتاب الإيمان في رواية هشام بن عروة عن عائشة قالت ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون ‏"‏ الحديث، وفيه ‏"‏ فيغضب ثم يقول إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا ‏"‏ وقد أوضحت شرحه هناك وذكرت فيه أن الحديث من أفراد هشام عن أبيه عروة عن عائشة، وطريق مسروق هذه متابعة جيدة لأصل هذا الحديث، قال ابن بطال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم رفيقا بأمته فلذلك خفف عنهم العتاب، لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من الأخذ بالشدة، ولو كان ذلك حراما لأمرهم بالرجوع إلى فعله‏.‏

قلت‏:‏ أما المعاتبة فقد حصلت منه لهم بلا ريب، وإنما لم يميز الذي صدر منه ذلك سترا عليه، فحصل منه الرفق من هذه الحيثية لا بترك العتاب أصلا‏.‏

وأما استدلاله يكون ما فعلوه غير حرام فواضح من جهة أنه لم يلزمهم بفعل ما فعله هو‏.‏

وفي الحديث الحث على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذم التعمق والتنزه عن المباح، وحسن العشرة عند الموعظة، والإنكار والتلطف في ذلك، ولم أعرف أعيان القوم المشار إليهم في هذا الحديث، ولا الشيء الذي ترخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت ما يمكن أن يعرف به ذلك وهو ما أخرجه مسلم في كتاب الصيام من وجه آخر عن عائشة ‏"‏ أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله وقال‏:‏ إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي ‏"‏ ونحو هذا في حديث أنس المذكور في كتاب النكاح ‏"‏ أن ثلاثة رهط سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السر ‏"‏ الحديث وفيه قولهم ‏"‏ وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ‏"‏ وفيه قولهم ‏"‏ والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ابْنُ أَبِي عُتْبَةَ مَوْلَى أَنَسٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا فَإِذَا رَأَى شَيْئاً يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي سعيد يأتي في ‏"‏ باب الحياء ‏"‏ بعد أربعة أبواب، وقد تقدم شرحه أيضا في ‏"‏ باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ يستفاد منه الحكم بالدليل، لأنهم جزموا بأنهم كانوا يعرفون ما يكرهه بتغير وجهه، ونظيره أنهم كانوا يعرفون أنه يقرأ في الصلاة باضطراب لحيته كما تقدم في موضعه‏.‏

*3*باب مَنْ كَفَّرَ أَخَاهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال‏)‏ كذا قيد مطلق الخبر بما إذا صدر ذلك بغير تأويل من قائله‏.‏

واستدل لذلك في الباب الذي يليه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَا حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ سَمِعَ أَبَا سَلَمَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد وأحمد بن سعيد قالا حدثنا عثمان بن عمر‏)‏ أما محمد فهو ابن يحيى الذهلي، وأما أحمد بن سعيد فهو ابن سعيد بن صخر أبو جعفر الدارمي، جزم بذلك أبو نصر الكلاباذي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن يحيي بن أبي كثير عن أبي سلمة‏)‏ كذا في رواية الجميع بالعنعنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبي هريرة‏)‏ في رواية عكرمة بن عمار المعلقة أنه ‏"‏ سمع أبا هريرة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا قال الرجل لأخيه يا كافر‏)‏ تقدم شرحه في ‏"‏ باب ما ينهي عنه من السباب واللعن‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عكرمة بن عمار عن يحيى‏)‏ هو ابن أبي كثير ‏(‏عن عبد الله بن يزيد‏)‏ هو المدني مولى الأسود بن سفيان، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث المعلق وحديث آخر موصول مضى في التفسير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ يعني بهذا الحديث، وقد وصله الحارث بن أبي أسامة في مسنده وأبو نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ من طريقه عن النضر بن محمد اليماني عن عكرمة بن عمار به، وقد أخرج مسلم في كتاب الإيمان من طريق النضر بن محمد عن عكرمة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة حديثا غير هذا ليس فيه بين يحيى وأبي سلمة واسطة‏.‏

وأخرج الإسماعيلي حديث الباب من رواية حذيفة عن عكرمة بن عمار بهذا السند وقال‏:‏ إنه موقوف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه‏.‏

انتهى‏.‏

وقد رفعه النضر بن محمد عن عكرمة كما ترى، ودل صنيع البخاري على أن زيادة عبد الله بن يزيد بين يحيى وأبي سلمة في هذه الرواية المعلقة لم تقدح في رواية علي بن المبارك عن يحيى بدون ذكر عبد الله بن يزيد عنده، إما لاحتمال أن يكون يحيى سمعه من أبي سلمة بواسطة ثم سمعه من أبي سلمة، وإما أن يكون لم يعتد بزيادة عكرمة بن عمار لضعف حفظه عنده‏.‏

وقد استدرك الدار قطني عليه إخراجه لرواية علي بن المبارك‏.‏

وقال‏:‏ يحيى بن أبي كثير مدلس، وقد زاد فيه عكرمة رجلا، والحق أن مثل هذا لا يتعقب به البخاري لأنه لم تخف عليه العلة بل عرفها وأبرزها وأشار إلى أنها لا تقدح، وكأن ذلك لأن أصل الحديث معروف ومتنه مشهور مروي من عدة طرق، فيستفاد منه أن مراتب العلل متفاوتة، وأن ما ظاهره القدح منها إذا انجبر زال عنه القدح، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في نفس المعنى وتقدم شرحه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِباً فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِناً بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ

الشرح‏:‏

حديث ثابت بن الضحاك تقدم شرحه‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ كنت أسأل المهلب كثيرا عن هذا الحديث لصعوبته فيجيبني بأجوبة مختلفة والمعنى واحد قال‏:‏ قوله ‏"‏ فهو كما قال ‏"‏ يعني فهو كاذب لا كافر، إلا أنه لما تعمد الكذب الذي حلف عليه والتزم الملة التي حلف بها قال عليه السلام ‏"‏ فهو كما قال ‏"‏ من التزام تلك الملة إن صح قصده بكذبه إلى التزامها في تلك الحالة، لا في وقت ثان إذا كان على سبيل الخديعة للمحلوف له‏.‏

قلت‏:‏ وحاصله أنه لا يصير بذلك كافرا وإنما يكون كالكافر في حال حلفه بذلك خاصة، وسيأتي أن غيره حمل الحديث على الزجر والتغليظ، وأن ظاهره غير مراد، وفيه غير ذلك من التأويلات‏.‏

*3*باب مَنْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلاً أَوْ جَاهِلاً

وَقَالَ عُمَرُ لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا‏)‏ أي بالحكم أو بحال المقول فيه‏.‏

قوله ‏(‏وقال عمر لحاطب بن أبي بلتعة إنه نافق‏)‏ ، كذا للأكثر بلفظ الفعل الماضي‏.‏

وفي رواية الكشميهني ‏"‏ منافق ‏"‏ باسم الفاعل‏.‏

وهذا طرف من حديث علي في قصة حاطب بن أبي بلتعة، وقد تقدم موصولا مع شرحه في تفسير سورة الممتحنة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا سَلِيمٌ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمْ الصَّلَاةَ فَقَرَأَ بِهِمْ الْبَقَرَةَ قَالَ فَتَجَوَّزَ رَجُلٌ فَصَلَّى صَلَاةً خَفِيفَةً فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاذاً فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَنَسْقِي بِنَوَاضِحِنَا وَإِنَّ مُعَاذاً صَلَّى بِنَا الْبَارِحَةَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَتَجَوَّزْتُ فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ثَلَاثاً اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَنَحْوَهَا

الشرح‏:‏

حديث جابر في قصة معاذ بن جبل حيث طول في صلاة الصبح ففارقه الرجل فصلى وحده، فقال معاذ إنه منافق وتقدم شرحه مستوفى في صلاة الجماعة، ومحمد بن عبادة شيخ البخاري فيه أبوه بفتح العين المهملة وتخفيف الموحدة‏.‏

وقوله ‏"‏فتجوز رجل ‏"‏ بالجيم والزاي للجميع، وحكى ابن التين أنه روي بالحاء المهملة أي انحاز فصلى وحده‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني إسحاق‏)‏ هو ابن راهويه، وأبو المغيرة هو عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، وهو من شيوخ البخاري قد حدث عنه كثيرا بلا واسطة‏.‏

وتقدم الحديث في تفسير سورة النجم مع شرحه، ووجه دخوله في هذا الباب واضح، قال ابن بطال عن المهلب‏:‏ أمره صلى الله عليه وسلم للحالف باللات والعزى بقوله لا إله إلا الله خشية أن يستديم حاله على ما قال فيخشى عليه من حبوط عمله فيما نطق به من كلمة الكفر بعد الإيمان، قال‏:‏ ومثله قوله ‏"‏ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ‏"‏ فنفى عنه الإيمان في حالة الزنا خاصة انتهى‏.‏

وقال في موضع آخر ليس في هذا الحديث إطلاق الحلف بغير الله، وإنما فيه تعليم من نسي أو جهل فحلف بذلك أن يبادر إلى ما يكفر عنه ما وقع فيه‏.‏

وحاصله أنه أرشد من تلفظ بشيء مما لا ينبغي له التلفظ به أن يبادر إلى ما يرفع الحرج عن القائل أن لو قال ذلك قاصدا إلى معني ما قال، وقد قدمت توجيه هذا في شرح الحديث المذكور، ومناسبة الأمر بالصدقة لمن قال أقامرك من حيث أنه أراد إخراج المال في الباطل، فأمر بإخراجه في الحق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ وَإِلَّا فَلْيَصْمُتْ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في حلف عمر بأبيه، وفيه النهي عن ذلك، وسيأتي شرحه مستوفى في كتاب الأيمان والنذور، وقصد بذكره هنا الإشارة إلى ما ورد في بعض طرقه ‏"‏ من حلف بغير الله فقد أشرك ‏"‏ لكن لما كان حلف عمر بذلك قبل أن يقتضي النهي كان معذورا فيما صنع، فلذلك اقتصر على نهيه ولم يؤاخذه بذلك لأنه تأول أن حق أبيه عليه يقتضي أنه يستحق أن يحلف به، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يحب لعبده أن يحلف بغيره، والله علم‏.‏

*3*باب مَا يَجُوزُ مِنْ الْغَضَبِ وَالشِّدَّةِ لِأَمْرِ اللَّهِ

وَقَالَ اللَّهُ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى وقال الله تعالى‏:‏ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم‏)‏ كأنه يشير إلى أن الحديث الوارد في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبر على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان لله تعالى فإنه يمتثل فيه أمر الله من الشدة‏.‏

وذكر فيه خمسة أحاديث تقدمت كلها وفي كل منها ذكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم في أسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كله كان في أمر الله، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد في الزجر عنها‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَسَرَةُ بْنُ صَفْوَانَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ صُوَرٌ فَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ وَقَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ

الشرح‏:‏

حديث عائشة في القرام، وقد تقدم شرحه في اللباس، ويسرة شيخه بفتح الياء المثناة من تحت والمهملة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا قَالَ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ أَشَدَّ غَضَباً فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ

الشرح‏:‏

حديث أبي مسعود في قصة تطويل الإمام في صلاة الغداة، وتقدم شرحه في صلاة الجماعة‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي رَأَى فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ نُخَامَةً فَحَكَّهَا بِيَدِهِ فَتَغَيَّظَ ثُمَّ قَالَ إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ حِيَالَ وَجْهِهِ فَلَا يَتَنَخَّمَنَّ حِيَالَ وَجْهِهِ فِي الصَّلَاةِ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في النخامة في القبلة، وقد تقدم شرحه في أوائل كتاب الصلاة، وقوله‏:‏ ‏"‏ حيال وجهه ‏"‏ بكسر المهملة بعدها تحتانية خفيفة أي تلقاء‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنَا رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا

الشرح‏:‏

حديث زيد بن خالد في اللقطة، وتقدم شرحه هناك‏.‏

الحديث‏:‏

وَقَالَ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَيْرَةً مُخَصَّفَةً أَوْ حَصِيراً فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهَا فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ وَحَصَبُوا الْبَابَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُغْضَباً فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ

الشرح‏:‏

حديث زيد بن ثابت ‏"‏ احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة ‏"‏ وقد تقدم شرحه في أبواب الإمامة، وحجيرة تصغير حجرة بالراء، وقد تقدم فيه رواية بالزاي، ويقال بفتح أوله وكسر ثانيه، والخصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة ثم فاء‏:‏ ما يتخذ من خوص المقل أو النخل، وقوله فيه‏:‏ ‏"‏ وقال المكي ‏"‏ هو ابن إبراهيم البلخي أحد مشايخه، وقد وصله أحمد والدارمي في مسنديهما عن المكي بن إبراهيم بتمامه، ومحمد بن زياد شيخه في الطريق الثانية هو الزيادي ماله في البخاري سوى هذا الحديث، قال الكلاباذي‏:‏ أخرج له شبه المقرون‏!‏ وكذا قال ابن عدي‏:‏ روى له استشهادا، وكانت وفاته قبل البخاري بقليل، مات في حدود الخمسين ويقال سنة اثنتين وخمسين وذكر ذلك الدمياطي في حواشيه، ومحمد بن جعفر هو غندر وعبد الله بن سعيد هو ابن أبي هند، وسياق الحديث في هذا الباب على لفظ محمد بن جعفر‏.‏

والغرض منه قوله‏:‏ ‏"‏ فخرج عليهم مغضبا ‏"‏ والظاهر أن غضبه لكونهم اجتمعوا بغير أمره فلم يكتفوا بالإشارة منه لكونه لم يخرج عليهم بل بالغوا فحصبوا بابه وتتبعوه، أو غضب لكونه تأخر إشفاقا عليهم لئلا تفرض عليه وهم يظنون غير ذلك، وأبعد من قال‏:‏ ‏"‏ صلى في مسجده بغير أمره ‏"‏ وقوله في آخره‏:‏ ‏"‏ أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ‏"‏ دال على أن المراد بالصلاة أي في قوله في الحديث الآخر ‏"‏ اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ‏"‏ صلاة النافلة، وحكى ابن التين عن قوم أنه يستحب أن يجعل في بيته من فريضة، وزيفه بحديث الباب والله أعلم‏.‏